في حدث فلكي نادر طالما أثار فضول البشرية، يستعد مذنب هالي — أحد أشهر المذنبات في تاريخ العلم والثقافة — للعودة إلى محيط كوكب الأرض. هذا المذنب، الذي يُعد من الظواهر السماوية القليلة التي يمكن للبشر رؤيتها أكثر من مرة خلال حياتهم، من المتوقع أن يمر مجددًا بالقرب من الأرض في 29 يوليو من عام 2061.
لكن على الرغم من اسمه المألوف وشهرته التاريخية، لا يُمثل مذنب هالي خطرًا على كوكبنا. إنه يتبع مدارًا معروفًا ومنتظمًا، يبلغ طوله 76 عامًا، يدور فيه حول الشمس مثل عقارب ساعة سماوية. حاليًا، يبتعد المذنب عن الشمس بمقدار 3 مليارات ميل تقريبًا، متجاوزًا كوكب نبتون في أقصى نقطة مدارية تُعرف باسم الأفيليون، وقد بدأ رحلته العكسية نحو الأرض.
مذنب قديم في أعين البشر منذ آلاف السنين
لقد لاحظ البشر مذنب هالي منذ أكثر من ألفي عام. أولى مشاهداته المسجلة تعود إلى عام 240 قبل الميلاد، وتكررت مرات عديدة عبر العصور.
لكن في تلك الأزمنة، لم يكن لدى البشر أي فهم لما يرونه في السماء. ولذلك، كثيرًا ما فُسر ظهوره كرسالة إلهية، نذير شؤم، أو علامة على التغيير القادم.
بعض الروايات تربطه بأحداث تاريخية كبيرة مثل هزيمة أتيلا الهون في 451، أو توسع الإمبراطورية العثمانية في 1456. حتى جنكيز خان اعتبر ظهوره في 1222 إشارة إلهية دفعت بجيوشه للتوسع. وكل ذلك قبل أن نعرف أن ما نشهده هو نفس الجسم الفضائي المتكرر.
كيف تحول الخوف إلى علم؟
التحول من الرهبة إلى الفهم بدأ في القرن الثامن عشر، عندما لاحظ العالم البريطاني إدموند هالي أن مذنبات ظهرت في أعوام 1531 و1607 و1682 تتبع نفس المدار تقريبًا.
استنتج أن هذه المشاهدات تعود لنفس الجسم، وتنبأ بعودته في عام 1758. على الرغم من أنه توفي قبل تحقق التنبؤ، فإن صدق توقعه غيّر نظرتنا للكون إلى الأبد.
تأكد حينها أن هالي لم يكن حدثًا فرديًا غامضًا، بل ظاهرة فلكية قابلة للتكرار والدراسة، مما مثّل تحولًا كبيرًا من التفكير الخرافي إلى العلمي. ومع هذا الاكتشاف، تسارع اكتشاف كواكب ومذنبات جديدة، مثل أورانوس في 1781 وسيريس في 1801.
الهلع في عام 1910
رغم الفهم العلمي، أثار مرور مذنب هالي في عام 1910 حالة من الهلع العالمي.
كان ذلك بسبب إشاعة أطلقها بعض العلماء مفادها أن الأرض ستمر عبر ذيله، المليء بالغازات السامة مثل السيانوجين.
دفع ذلك الناس إلى شراء أقنعة وأقراص وقائية — في واحدة من أوائل الهستيريا الجماعية المرتبطة بالفضاء.
الظهور الأخير في 1986
عندما عاد المذنب في 1986، كان الإنسان قد وصل إلى الفضاء، ومعه مركبات يمكنها تتبع المذنبات عن قرب.
أرسلت وكالات الفضاء مركبات مثل Giotto وVega لدراسة نواة المذنب وتصويره، ليصبح هالي أول مذنب يُشاهد عن قرب بوساطة الإنسان.
رغم أن ظهوره كان خافتًا نسبيًا، إلا أن الحدث احتفظ بجاذبيته الرمزية. وحتى يومنا هذا، تسقط أجزاء صغيرة من المذنب كل عام على الأرض ضمن زخات شهب إيتا أكوارييد.
دورة الحياة والمذنب: رمز ثقافي
يبلغ عمر الإنسان الوسطي بين 70 و90 عامًا، في حين يكمل مذنب هالي دورة كل 76 عامًا. هذه المصادفة الزمنية جعلته رمزًا يرتبط بدورة الحياة البشرية.
كما ترى الكاتبة آشلي بنهام-يزداني، فإن هالي أصبح نقطة مرجعية ثقافية تستخدمها الإنسانية لقياس الزمن والتغير، ما يمنحه بعدًا عاطفيًا وإنسانيًا يتجاوز الفلك.
ماذا نتوقع في 2061؟
الظهور القادم قد لا يكون باهرًا للعين المجردة، خصوصًا إذا استمر المذنب في فقدان مادته النشطة.
لكن علماء الفضاء يأملون أن يستغلوا هذه الفرصة لإرسال بعثات جديدة، وربما حتى مهمة لأخذ عينة من نواة المذنب — وهي خطوة قد تفتح بابًا لفهم أعمق لأصل النظام الشمسي.
أما بالنسبة لعامة الناس، فقد يكون الظهور القادم حدثًا شخصيًا وعائليًا فريدًا. لحظة تأمل مشتركة في سماء الليل، تمامًا كما فعل البشر قبل آلاف السنين.
الخاتمة
هالي ليس مجرد مذنب، بل شاهد سماوي على تطور فهم الإنسان للكون من الخرافة إلى العلم، ومن الرهبة إلى الفضول.
مع كل ظهور له، نستعيد اتصالنا بماضٍ طويل من المراقبة والتساؤل، ونتطلع إلى المستقبل بمزيد من المعرفة.
وعندما يعود في 2061، ربما لا يثير الذعر كما في 1910، ولا يخفت كما في 1986، بل سيكون لحظة نادرة من الوحدة الكونية، حيث نرفع رؤوسنا إلى السماء لنتأمل، ونتذكر أن بعض الأشياء في هذا الكون — رغم ضخامتها وبعدها — تربطنا بعمق بجذورنا البشرية.